المطلب الرابع : سرد طريقة الشناقطة في حفظ كتاب الله تعالى :
لقد اهتم الشناقطة بحفظ كتاب الله تعالى ، وتعليمه للصغار في سن مبكرة ، ووضعوا الحوافز المادية والمعنوية للحفاظ ، وفتحوا المحاضر والكتاتيب لتعليم كتاب الله تعالى أولا ، ثم كتب اللغة ، والأصول ، والحديث ، وغيرها ، فقلما تجد قبيلة إلا وفيها من الحفاظ العدد الكثير ، وخاصة في قبائل الزوايا التي اهتمت بهذا المجال ، وجعلته ميدانا يتنافس فيه المتنافسون.
وقد اختاروا للوصول إلى هدف حفظ كتاب الله تعالى طريقة اتبعت على مر العصور في غالب مناطق شنقيط ، ويمكن تلخيصها في المراحل التالية :
أولا : مرحلة الطفولة المبكرة ، وتعليم الحروف للأطفال : وتبدأ هذه المرحلة عندما يبلغ الطفل سن الخامسة – في الغالب – فيرسله أهله إلى من يعلمه الحروف الأبجدية ، وتتولى النساء هذه المهمة غالبا ([1]) ؛ فتقوم امرأة مشهورة بهذه المهنة بتعليم الطفل جميع الحروف الأبجدية ، ثم تعلمه حركاتها ، حتى إذا أتقن ذلك سردا وبدون تردد ، وصار يقرأ أي حرف كتب له مفردا ، أو مع حركته ، فعند ذلك تستحق ما هو متعارف عليه في تلك المنطقة ، فيعطيها أهل الطفل جذعة من الإبل أو البقر ، هذا فضلا عن المعونات التي كانوا يقدمونها للمعلمة أثناء دراسة الطفل عليها ([2])…
ثانيا : الشيخ يكتب والطفل يكرر :
في هذه المرحلة يتعلم الطفل الكتابة تدريجيا ؛ فيضع الشيخ الدواة ، واللوح ،
والقلم ،([3]) ويجلس الطفل بجانبه ، فيبدأ الشيخ كتابة الكلمة حرفا حرفا ، وينطق بالحرف محركا بحركته ، ثم ينطق به التلميذ بعد الشيخ مباشرة ، وهكذا إلى أن تنتهي الكلمة ، ثم يقرؤها الشيخ كلمة تامة ، ويعيدها التلميذ بعده ، وهكذا حتى تنتهي آية أو آيتان ؛ حسب قدرات الطفل واستعداده ، فيحفظ الطفل في هذه المرحلة السور القصار ، حتى يكمل الجزء الثلاثين وأحيانا يزيد حفظه في هذه المرحلة على خمسة أجزاء ، أو أكثر ، ويتعلم في آخرها كتابة بعض الكلمات والآيات ببطء ، ثم بسرعة ، مع تمرينه دوما من قبل الشيخ ، ثم من قبل بعض الطلاب الذين يسبقونه بمراحل ، كما يشارك الأهل بدورهم في هذه المرحلة – أيضا – وخاصة الأم والأخوات…
ثالثا : التلميذ يكتب والشيخ يملي :
من خلال المرحلة السابقة وفي آخرها يكون التلميذ قد تعود على الكتابة ؛ فيبدأ في هذه المرحلة بالاعتماد على نفسه ، وكتابة درسه من إملاء الشيخ ، أو بعض من ينيبه من كبار التلاميذ ، ويظل هكذا يحفظ كل يوم حسب المستطاع ، ويتراوح مقدار الحفظ – غالبا – في هذه المرحلة بين ما يناهز نصف الصفحة والصفحة إلى أن يحفظ قرابة نصف القرآن ؛ فيزيد الدرس اليومي إلى حدود الصفحتين ، ويستمر في هذه المرحلة إلى أن يكمل القرآن الكريم كاملا ، ويسمع على الشيخ في كل يوم عندما ينهي الكتابة ، وقبل أن يكرر للحفظ ، ويركز الشيخ – في هذه المرحلة – على نطق الطالب للحروف نطقا سليما مع مراعاة حركاتها ؛ فيمنع إبدال حركة بأخرى ، أو إبدال محرك بساكن ، أو تسكين الحرف المحرك في حال الوصل ، وغير ذلك ، حتى إذا اطمأن الشيخ لنطقه بالكلمات نطقا صحيحا أعطاه الإذن لينصرف ، ويجلس جانبا ، ثم يبدأ بالتكرار ، ويكرر درسه في الصباح قرابة مائة مرة ، ثم يأتي ليسمعها على الشيخ نظرا ، وتبدأ فترة الاستراحة من ارتفاع النهار ( الساعة 10 تقريبا ) إلى صلاة الظهر ، ثم يعاود التكرار من جديد حتى يحفظ درسه غيبا ، وبدون تردد ثم يسمع على الشيخ غيبا ، فإذا اطمأن لحفظه لدرس اليوم أمره بتكرار درس اليوم الماضي ، ويسمى عندهم “الدرس” ([4]) ، ثم يأتي ليسمعه على الشيخ غيبا ، فإذا أنهى تسميع وجهي لوحه ، أمره بتسميع الأحزاب الخمسة المحفوظة أخيرا ([5])، ثم إن بقي من الوقت شيء أعطاه تلاميذ آخرين دون مستواه يقرؤون عليه دروسهم اليومية ، ولهذه الخطوة دور هام في ترسيخ الحفظ وتقويته ، كما أنها تدفع بنفسية الطالب ، وتعوده على الثقة بالنفس ، لأنه يصبح بها وكأنه شيخ يقرئ الطلاب.
ثم إنه لا بد من التسميع على الشيخ ثلاث مرات في اليوم – على الأقل – فتكون الأولى في الصباح بعد الحفظ نظرا ، ثم يرتاح التلميذ حتى يصلى الظهر ، فيبدأ التكرار من جديد ، ثم يأتي إلى الشيخ ويسمع عليه غيبا ، ثم يرتاح ، وفي المساء يعاود التكرار من جديد ، ثم يسمع على الشيخ غيبا أيضا. ([6])
ولا ننسى أن لكل طالب – في هذه المرحلة – ورد من القرآن الكريم يراجعه كل يوم ، وأقله خمسة أجزاء ، أو أكثر ، حسب نظام كل شيخ في محضرته ، وورد المراجعة هذا يسمعه التلميذ على نفسه غيبا ، ولكن الشيخ ينادي بين الفينة والأخرى أحد الطلاب ليراجع له كل ما حفظ ، فإذا وجد حفظ بعض الأجزاء غير جيد علم أن الطالب كان يغش ، ومن ثم يقترح الشيخ العقاب المناسب ، وينفذه مباشرة ، وعندها فإنه لن يعود طالب للغش في المراجعة مرة أخرى ، وهكذا ، فبالرعاية من الشيخ ومداومة رقابته على ما حفظ الطلاب يرسخ الحفظ في هذه المرحلة ويثبت ..
وقراءة الطلاب في المحضرة تكون جهرية بحيث يسمعها الشيخ والطلاب ، ولا يسمح لطالب بالإسرار بالقراءة ،
([1]) انظر : “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط” ص 517
([2]) يقدم أهل الطفل مساعدات للمرأة التي تعلم الطفل الحروف في يومين من الأسبوع ، هما يوم الاثنين ، ويوم الأربعاء ، وتختلف هذه المساعدات ، فبعضهم يرسل طعاما ، وآخرون يرسلون نقودا ، والبعض الآخر يرسل ملابس ونحو ذلك ، هذا فضلا عن اللبن الذي تقدم فيه المدرسة كل ليلة على غيرها ، وإن كان الحليب في الغالب يستوي فيه الجميع ، إلا أنه إن قل فإنهم يؤثرونها حتى على أنفسهم .
([3]) هذه الأدوات هي المتعارف عليها عند البدو الشناقطة ؛ فاللوح يكون من الخشب ، والقلم من الجريد أو الثمام ، أما الدواة فإنها تكون من الحجارة ، أو النحاس ، والمداد يصنعونه من الصمغ العربي والفحم .
([4]) بترقيق الراء . مأخوذ من دَرَسَتْ : أَي تقادمت ، أو من دَرَسْتُ الكتاب أَدْرُسُه دَرْساً أَي ذللته بكثرة القراءة حتـى خَفَّ علـيَّ حفظه ، أو من درس الثوب دروسا ، إذا بلي وأخلق ، أو من دَرَسَ الناقة يَدْرُسُها دَرْساً : بمعنى راضها. انظر : “لسان العرب” ج 6 ص 80 و”النهاية في غريب الأثر” ج2 ص113
([5]) وهذه الأحزاب الخمسة مستمرة ، تتقدم بتقدم الحفظ ؛ بحيث يضاف لها كل يوم ثمن أو ثمنان حفظا من جديد ، ويحذف منها أول ثمنين في الحفظ ، وهكذا حتى يكمل حفظ القرآن الكريم ، والحزب عندهم نصف الجزء ، والثمن هو ثمن الحزب .
([6]) إن تفريق جلسات الحفظ ، ووجود استراحة بينها ، عامل مساعد على تثبيت الحفظ ، وترسيخة ، وقد أثبتت ذلك تجربة قام بها “هو فلاند” عام 1940 م على “22” طالبا جامعيا . انظر “طرق تدريس القرآن الكريم” ص 118 وراجع “مبادئ علم النفس التعليمي” ص 147
الله يجزيكم الخير