ولهذه القراءة الجهرية فوائد في عملية الحفظ من أهمها :
1 – كونها تعين الشيخ على سماع بعض الأخطاء المحتملة للطالب ، فيبادر إلى إصلاحها قبل أن ترسخ في ذاكرة التلميذ…
2 – تنمي ثقة التلميذ بنفسه ، وتجعله جريئا على التلاوة جهرا أمام الحفاظ والعلماء ، وعلى الإمامة في الصلوات الجهرية ، وخاصة صلاة التراويح في رمضان .
3 – منع سريان اللهجات العامية في قراءة الطالب ، وذلك أن بعض الأطفال قد يقرأ بعض الحروف في القرآن الكريم حسب ما ينطقها بالعامية.([1])
فإذا أكمل الطالب القرآن الكريم بالطريقة التي تقدمت سمعه من بدايته إلى نهايته على الشيخ نفسه مرات عديدة ، ولا يسمح الشيخ لأحد التلاميذ أن ينوب عنه في هذه الخطوة ؛ لما لها من الأهمية ، كما لا يسمح للتلميذ بالوقف الذي لا يبين أصل الحركة ؛ بل يظهر حركة كل كلمة ؛ فإذا تأكد من جودة حفظه ، وإتقانه لما حفظ ؛ فإنه يأمره بقراءة القرآن الكريم كاملا على اثنين من الحفاظ ، كل على انفراد ، حتى يتأكد أهله من أن الشيخ قام بمهمته أحسن قيام ، وإنما يفعل المشايخ ذلك إبراء للذمة ، وإبعادا لأنفسهم عن التهم ([2])، ومحافظة على صفاء الأجواء بين المشايخ وأولياء التلاميذ ، وتواضعا منهم ، وإن كانوا غير ملزمين بذلك على سبيل الشرط.
رابعا : التلميذ يتعلم الرسم العثماني :
بعد تسميع القرآن الكريم كاملا على الشيخ وعلى الحفاظ كما ذكرنا آنفا يبدأ الطالب بتعلم الرسم العثماني وأشهر الكتب التي يقرؤونها في هذا المجال كتاب رسم الطالب عبد الله الجكني الشنقيطي رحمه الله تعالى ([3]) وهو كتاب قيم ، حاول مؤلفه أن يحيط بطريقة كتابة كل الكلمات القرآنية بالرسم العثماني ، وضبط التابعين ، وقد نجح في مسعاه إلى حد كبير ؛ فرحمه الله تعالى رحمة واسعة وجزاه عنا خير الجزاء .
خامسا : كتابة القرآن الكريم مع مراعاة قواعد الرسم العثماني :
ثم يبدأ الطالب بإعادة كتابة القرآن الكريم مع مراعاة قواعد الرسم التي قرأ ، ويكتب في هذه المرحلة ما يقارب ثلاث صفحات ، من حفظه دون إملاء من الشيخ ، أو نظر في المصحف ، ثم يعطي اللوح للشيخ لينظر في الأخطاء المحتملة في الكتابة ، ويبدأ في التكرار مع النظر للكتابة ، حتى ترسخ في الذهن ألفاظ الكلمات ، وطريقة كتابتها ، كل ذلك مع تسميعه للطلاب الذين دونه في المستوى ، وهذه الخطوة ترسخ الحفظ إلى حد يصعب بعده النسيان …
فإذا استطاع الطالب أن يكتب خمسة أجزاء ، أو أكثر – حسب نظام كل شيخ – بدون أي أخطاء في الرسم العثماني ؛ فإن الشيخ يأمره بكتابة “ابن بري” وهو كتاب قيم في قراءة نافع من روايتي ورش وقالون ، وهما الروايتان المقروء بهما في تلك البلاد ، ويواصل مع حفظ هذا الكتاب مراجعة نص القرآن الكريم ، والتسميع للطلاب ، ومساعدة الشيخ في كثير من شؤون الطلاب.
ثم يضبط برواية ورش قرابة عشرة أجزاء ، ثم يضبط نفس العدد برواية قالون.
ويتفاوت المشايخ في التشدد في كتابة القرآن الكريم بالرسم العثماني ، فبعضهم يفرض على الطالب أن يكتب جميع القرآن الكريم بالرسم العثماني وضبط التابعين ويكون أكثره برواية ورش ، وباقيه برواية قالون ، ويتشدد بعضهم فيفرض كتابته مرتين ، مرة بورش ، وأخرى بقالون ، ولكن الأكثر انتشارا هو ما قدمنا من كتابة ما يقارب العشرة أجزاء بكل واحدة من الروايتين ..
وأكد لي الشيخ : محمد بن أب السيدوي الحسني([4]) – حفظه الله تعالى – أن المعيار الحقيقي في ذلك ليس في الكمية التي يكتبها الطالب ، وإنما في اطمئنان الشيخ لإتقان الطالب للرسم والضبط.
وبعد ذلك يأمره الشيخ بترك الكتابة ؛ إشعارا له بأنه دخل في مرحلة الإجازة.
ومن الجدير بالذكر أن التلميذ في هذه المرحلة يكتب القرآن في لوحه أمام الطلاب ، حتى يبعد عن نفسه تهمة النظر في المصحف ، والغش في طريقة كتابة الكلمات ، ونحو ذلك ، فإن عثر على أن أحد الطلاب اختلس كتابة كلمة على تلميذ مثله ، أو على المصحف ، فإن ذلك يعتبر معرة ، وفضيحة كبرى ، فربما يسمى بتلك الكلمة ذلك التلميذ بين الطلاب ؛ فتصبح علما عليه ، وقد يبلغ به الضغط النفسي بسببها إلى الهروب من المحضرة في بعض الأحيان .
سادسا : مرحلة الحصول على الإجازة :
بعد المراحل السابقة يكون التلميذ مهيئا للإجازة ؛ فيجلسه الشيخ ، ويأمره
بتسميع القرآن الكريم كاملا من بدايته إلى نهايته دون أي خطأ أو تردد ([5]) ثم يكتب له الشيخ الإجازة بخطه ، وفيها سنده في قراءة نافع ، ويأمره فيها بتقوى الله عز وجل ، والمحافظة على القرآن الكريم تلاوة ، وتدبرا ، وتعليما.
([1]) انظر : “طرق تدريس القرآن الكريم” ص 114 د. محمد السيد الزعبلاوي
([2]) ومن السنة أن ينأى الإنسان بنفسه عن محل التهم ، ولا يساعد الشيطان على إخوانه ؛ ليقذف في قلوبهم الاحتمالات الممكنة ، وغير الممكنة ؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه ، حديث رقم 1930 ج 2 ص 715 عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ؛ فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت تنقلب ؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها ، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة ، مر رجلان من الأنصار ؛ فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله ، وكبر عليهما ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا .
فإذا كان الطاهر المطهر صلوات الله وسلامه عليه يعتذر عن مثل هذا ؛ فحري بجميع المسلمين أن يقتدوا به ، وأن يسيروا على نهجه ، ولا يتركوا مجالا للشيطان ينتهزه لتفريقهم ، وإذكاء نار العداوات بينهم .
([3]) وهو الآن مطبوع طباعة جيدة ، ومشروح شرحا وافيا ، ومتوفر في الأسواق ، أما قديما فكانوا يعتمدون في تدريسه على حفظ الشيخ له ، وربما وجدت بعض النسخ المكتوبة باليد تعين الطلاب على الاستذكار نادرا ، لأن الطريقة المتبعة عند الشناقطة هي الاعتماد على الحفظ ، وفي حال النسيان يعتمد على الشيخ أو أحد الطلاب ، ويحذرون من المذاكرة عن طريق النظر إلى المصحف .
([4]) سيأتي التعريف به إن شاء الله تعالى.
([5]) يتفاوت المشايخ هنا في التشدد ، فبعضهم لا يسمح بأبسط غلط ، وبعضهم يسامح في الأغلاط البسيطة ، مع أن احتمال الغلط شبه مستحيل في هذه المرحلة ..