المطلب الثاني : صفات الشيخ ([1]) الذي يتولى التدريس عند الشناقطة :
إن التعليم هو الوسيلة التي تتبعها الأمة لتعريف أبنائها بعقيدتهم ، وتراث أمتهم وتبصيرهم بمتطلبات الحياة ، وتسليحهم بمهارات تمكنهم من المساعدة في تقدمها ورقيها ..
وأهم علم يساعد على تحقيق هذه الغايات النبيلة هو العلم بكتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن المعلم الذي يضطلع بإيصال تلك الرسالة إلى الطلاب ؛ لا بد أن يكون مستوعبا لقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه ، فهو مصلح ، والمصلحون ينبغي أن يكونوا قد حققوا الصلاح في أنفسهم أولا ، كما أنه من المهم أن يكونوا قد حصلوا وسائل توصيل هذا الصلاح إلى غيرهم ، حتى لا يكون صلاحهم قاصرا عليهم لا يستطيعون تجاوز ذواتهم ، ولا يقدرون على جعل تلك المعارف التي حصلوا عليها ثمارا يأكل منها الجياع الذين ضمرت عقولهم من قلة الوجبات المقدمة لهم في هذا المجال …
ولذا فإن اختيار الشيخ المناسب يعتبر أهم لبنة في البناء التعليمي ، وأهم ركن يقوم عليه بناؤه ، وقد درج السلف الصالح على الاهتمام باختياره ، والعناية بأمره ، وكرسوا صفحات من كتبهم لذلك …
قال الماوردي ([2]) – رحمه الله تعالى – : ( يجب أن يجتهد في اختيار المعلم والمؤدب ، الاجتهاد في اختيار الوالدة والظئر ؛ بل أشد منه ؛ فإن الولد يأخذ من مؤدبه من الأخلاق ، والشمائل ، والآداب ، والعادات ؛ أكثر مما يأخذ من والده ؛ لأن مجالسته له أكثر ، ومدارسته معه أطول ، والولد قد أمر حيث سلم إلى المدرس بالاقتداء به جملة ، والائتمار له دفعة ، وإذا كان هكذا ؛ فيجب ألا يقتصر من المعلم والمؤدب على أن يكون قارئا للقرآن ، حافظا للغة ، أو راويا للشعر ، حتى يكون تقيا ، ورعا ، عفيفا ، دينا ، فاضل الأخلاق ، أديب النفس ، نقي الجيب .. ). ([3])
وقد وعى الشناقطة هذه الأمور ، واهتموا بها حق الاهتمام ؛ فلم يعطوا لأحد الحق في تدريس كتاب الله إلا إذا كانت عنده مؤهلات تسمح له بذلك ، ومن أهمها :
1 – حصوله على سند بقراءة القرآن الكريم من شيخ موثوق به ، فالقرآن ليس كغيره من العلوم التي يمكن تحصيلها بالمطالعة ، فلا بد فيه من السماع إلى شيخ خبير بمخارج الحروف ، وأحكام التجويد ، يعرف مقدار الغنة ، والمد وأنواعه ، إلى غير ذلك من الأحكام ، التي لا بد في تعلمها من الجلوس إلى المشايخ ([4])..
2 – معرفته بطرق تدريس القرآن الكريم ، ويعرفون ذلك من خلال التجربة ؛ فقلما يجلس شيخ للإقراء إلا لوحظ مدى انتفاع الطلاب به من عدمه ، ولذا تجد بعضهم يذهب بابنه مسافات بعيدة ؛ لأنه سمع بشيخ يتمتع بأهلية التدريس ، في حين يتجاوز محاضر عدة بسبب قصور مدرسيها في المجال التربوي ؛ رغم حصولهم على إجازات من قراء معروفين .
3 – غزارة المادة العلمية : ففي أغلب الأحيان يكون الشيخ الذي يتولى التدريس واسع الإطلاع ، وخاصة في العلوم الشرعية من فقه ، ولغة ، وغير ذلك ، مما يثري المادة العلمية عنده ؛ ليشبع نهم الأطفال المتزايد من الأسئلة ، ويكون عندهم بالتالي مجموعة لا يستهان بها من المعارف ، من خلال إجابته على تلك الأسئلة التي يثير النص القرآني نسبة كبيرة منها.
4 – حسن الأخلاق : من أهم مواصفات الشيخ أن يكون زكي السيرة ، حسن الأخلاق ، متواضعا ، مستقيما ، حتى يفيد الطلاب في هذه الناحية التي هي من أهم ثمار تعلم العلم عامة ، وخاصة كتاب الله تعالى ، الذي يدعو إلى كل خلق حميد ، وينهى عن كل خلق ذميم .
فإذا كان الشيخ متأدبا بآداب القرآن والسنة ، كان أهلا لتربية الأجيال حتى يتأثروا به ، ويقتدوا ([5]) بأفعاله وأقواله ..
ذكر ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – عن نفسه أن تأثره ببكاء بعض شيوخه كان أكثر من تأثره بعلمهم . ([6])
وقال عتبة بن أبي سفيان ([7]) – رحمه الله تعالى – لمؤدب ولده : ( ليكن أول
إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك ، فإن عيونهم معقودة بك ، فالحسن عندهم ما صنعت ، والقبيح عندهم ما تركت ، وعلمهم كتاب الله ، ولا تكرههم عليه فيملوه ، ولا تتركهم منه فيهجروه ، ثم روهم من الشعر أعفه ، ومن الحديث أشرفه ، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه ، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم ..) ([8])
وقال عبد الملك بن مروان([9]) – رحمه الله تعالى – لمؤدب ولده : ( علم
أولادي الصدق كما تعلمهم القرآن ، وعلمهم الشعر([10]) ، وجنبهم السفه ، وجالس بهم علية القوم يناطقوهم بالكلام ) ([11])
ويستلزم كل ذلك أن يكون الشيخ نفسه يتمتع بأخلاق عالية ، فهو قدوتهم الأول ، وتأثير أفعاله ، وأقواله على سلوكهم أعلى من أي تأثير آخر ، فينبغي أن يكون علمه في ذاكرته ، ومنعكسا على جوارحه على حد سواء.
قال الخطيب البغدادي : ( .. ويكون قد وسم نفسه بآداب العلم ، من استعمال للصبر ، والحلم ، والتواضع للطالبين ، والرفق بالمتعلمين ، ولين الجانب ، ومداراة الصاحب … وغير ذلك من الأوصاف الحسنة ، والنعوت الجميلة ). ([12])
أما الشيخ الذي يفيد غيره من علمه دون أن ينتفع هو به ، ودون أن ينعكس على هديه ، وأخلاقه ، وتعامله مع الآخرين ، فإنه يكون كالكتاب يفيد غيره بالحكمة ، وهو يفتقدها ، وكالشمعة تحترق ؛ لتضيء للآخرين ..
وآخر الأحوال لهؤلاء هي حال من استفاد علما ، ولم ينتفع هو به ، ولا نفع غيره .
كالنخل يشرع أشواكا يذود بها عن حمله كف جان وهو منتهب ([13])
5 – الرأفة بالتلاميذ : على المعلم أن ينزل تلامذته منزلة أولاده ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو معلم البشرية كلها : ( إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم … ) ([14])
ولا شك أن العلماء هم الوارثون لهذه المهنة النبوية التي هي تعليم الناس الخير ، وتحذيرهم من الشر ، فعليهم أن يشفقوا على تلامذتهم ، ويعاملوهم باللين والرحمة ، وأن لا يلجؤوا إلى العقاب إلا حينما يكون ضروريا ..
6 – عزة النفس : من صفات الشيخ كذلك أن يكون عزيز النفس ، زاهدا في الدنيا ، مقدرا لما أعطاه الله من العلم ، وأن لا يتخذه وسيلة لجمع المال ، ومطية لتحصيل المكاسب المادية ، وأن لا يذل نفسه عند المتعلمين بالطمع فيما في أيديهم ؛ فإن من رزقه الله حفظ كتابه ؛ حري به أن يكون عزيز النفس في غير كبر ، متواضعا من غير ذل ..
ومن هذا المنطلق كان مقر الطلاب الشناقطة عند الشيخ ، واستقرارهم في محضرته ، ويرتحلون إليه من أماكن بعيدة ؛ ولم يكن ليرتحل هو إليهم ؛ مهما كان مستوى أسرهم المادي ، أو المعنوي .. ([15])
وقد توجد بعض الاستثناءات – في القليل النادر جدا – ، فقد يستقدم بعض أمراء القبائل ، مقرئين ليؤدبوا لهم أولادهم وخواصهم ، وهم قلة جدا ، سواء بالنسبة لحال سلف الأمة ، أو بالنسبة للشناقطة أيضا ؛ لأن الأصل أن العلم يؤتى ولا يأتي ، ومن أراد استفادة ولده أكثر ؛ فعليه أن يؤدبه بأدب العلم ، ومنه أن يأتي إلى الشيخ ، إلا إذا كانت هناك ضرورة من خوف قتل عليه ، ونحو ذلك ، وعلى هذا درج كثير من السلف الصالح ، فلم يكونوا يستقدمون العلماء – مع قدرة كثير منهم على ذلك – إلا لضرورة .والله أعلم.
قال الزهري : ( هوان بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم ). ([16])
قلت : وينبغي أن يستثنى من ذلك ما كان لضرورة ، أو مصلحة راجحة ، ما لم يكن فيه تعال للمتعلم على العالم ، أو الاستهانة بما علمه الله من كتابه ، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم …
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبي شجاع الجرجاني حين قال :
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لا قيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلــة إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظمـا
([1]) المقصود هو الشيخ الذي تكون عنده محضرة لتدريس العلوم الشرعية ، ومنها القرآن الكريم ، ولا أقصد المحفظين الذين لا يتولون إلا تحفيظ الأطفال فقط.
([2]) هو الإمام : علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي ، ولد سنة 364 هـ بالبصرة ، وأخذ عن جملة من أجلاء العلماء منهم : الصيرمي ، والإسفرائيني ، والخوارزمي ، وغيرهم ، وعنه أخذ كثير من الطلاب العلم منهم : الباقلاني ، وابن كادش العكبري ، والخطيب البغدادي ، وشهد له العلماء في كل عصر بسعة العلم ، ووفور العقل ، قال السبكي : كان الماوردي إماما جليلا ، له اليد الباسطة في المذاهب ، والتفنن التام في سائر العلوم ، ألف مجموعة من الكتب ، من أشهرها كتابه “الحاوي” في الفقه الشافعي توفي – رحمه الله – 30 ربيع الأول سنة 450 هـ ودفن في بغداد .
انظر ترجمته في “الحاوي” ج 1 ص 3 و “طبقات الشافعية” ج 3 ص 303
([3]) انظر : “نصيحة الملوك” للماوردي ص 170 نقلا عن كتاب “أطفال المسلمين كيف رباهم النبي الأمين” ص 177
([4]) لقد كثرت الأغلاط في هذا الزمن – وللأسف الشديد – في التجويد ، حتى في بعض القراء هداهم الله ، فإنك قد تجد بعضهم يسرع في القراءة حتى لا يعطي أي مد حقه ، ولا يعطي للغنه حقها ، ولا يقلقل المقلقل ، ولا يفخم المفخم ، ولا يرقق المرقق ، إلى غير ذلك ، والبعض منهم يبالغ في ذلك حتى يزيد في المد ويجعله عشر حركات ؛ بل وحتى عشرين حركة أحيانا ، ويزيد الغنة إلى ست أو سبع حركات ، ونحو ذلك ، قال حمزة الزيات القارئ لمن سمعه يبالغ في تحقيق الحروف عن المطلوب : ( أما علمت أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط ، وما كان فوق البياض فهو برص وما كان فوق القراءة فليس بقراءة ).
قلت : ولا عيب إن وقع هذا من غير خبير بهذا الشأن ، ولكن المشكلة أن تصدر مثل هذه الأخطاء عن قراء مشهورين ، لهم أسانيدهم ، وإجازاتهم ..
وفي رأيي أن أهم سبب لذلك هو الاهتمام الزائد بتحسين الصوت ، حتى يخرج عن المطلوب شرعا .والله تعالى أعلم.
([5]) القُدوة : بالكسر والضم الاقتداء بالغير ومتابعته والتأسي به . قال الشاعر :
بأبه اقتدى عدي في الكرم ومن يشابه أبه فما ظلم.
انظر : “لسان العرب” ج 15 ص 171 و”التعاريف” ج1 ص577
([6]) انظر : “صيد الخاطر” ص 140
([7]) هو : عتبة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية الأموي ، أخو معاوية لأبويه ، قال ابن منده : ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحج بالناس سنة إحدى وأربعين وبعدها ، ثم ولي بمصر على الجند بعد عزل عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما – فمات بالإسكندرية . انظر ترجمته في : “الإصابة في تمييز الصحابة” ج5 ص60
([8]) انظر : “البيان والتبيين” ص 249
([9]) هو : عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي ، أمير المؤمنين ، بويع بعهد من أبيه في خلافة ابن الزبير ، وكان عابدا ناسكا ، شهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنين ، قال ابن سعد : واستعمله معاوية على المدينة وهو ابن ست عشرة سنة ، وسمع عثمان ، وأبا هريرة ، وأبا سعيد ، وأم سلمة ، وابن عمر ، ومعاوية ، رضي الله عن الجميع ، وهو أول من سمى عبد الملك في الإسلام ، قال أبو الزناد : فقهاء المدينة : سعيد بن المسيب ، وعبد الملك بن مروان ، وعروة بن الزبير ، وقبيصة بن ذؤيب . ولد له سبعة عشر ولدا ، ومات في شوال سنة ست وثمانين للهجرة.
انظر ترجمته في : “فوات الوفيات” ج2 ص24
([10]) لا ينبغي الإطلاق هكذا ، فتعلم الشعر ليس مباحا في الشريعة بصفة مطلقة ، فكم من القصائد يذم مجرد الاستماع لها شرعا ، فضلا عن تعلمها أو حفظها ، ولكن مقصود عبد الملك – فيما يظهر والله أعلم – هو تعلم الشعر المباح ، أو المندوب إليه ، كأشعار العرب المحتج بهم للاستشهاد بها في معاني القرآن الكريم وإعرابه وكالشواهد المعروفة في علم النحو ، وكالمديح المباح غير الزائد عن المأذون فيه شرعا ، ونحو ذلك ، أما الهجاء ، والغزل الفاحش ، فهذا النوع من الشعر تأباه المروءة ؛ فضلا عن الدين ، فلا ينبغي تعلمه ، ولا إضاعة الوقت فيه . والله أعلم.
([11]) انظر : “المعلم المثالي” ص 11
([12]) انظر : “الفقيه والمتفقه” ج 2 ص 192 بتصرف.
([13]) انظر : “الذريعة إلى مكارم الأخلاق” ص 116 نقلا عن كتاب “مدارس التربية في الحضارة الإسلامية” ص 266 .د/ حسان محمد حسان و د/ نادية جمال الدين .
([14]) قطعة من حديث طويل رواه “ابن ماجه” في سننه ، باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة ، حديث رقم 313 ج 1 ص 114 و “النسائي” في سننه ، باب النهي عن الاستطابة بالروث ، حديث رقم 40 ج 1 ص 38
([15]) المقصود هو شيخ العلم ، أما مجرد المحفظ للأطفال ؛ فقد كان يستقدم لكن مع الإجلال والإكبار والتقدير ..