المبحث السابع : بعض المآخذ على طريقة الشناقطة في الحفظ :
أولا : المبالغة في العقاب بالضرب :
إن العقاب التربوي الفعال لا بد أن تراعى فيه موازين الشرع ووسطيته بعدم الإفراط أو التفريط ، وقد قدمنا بعض الشروط التي وضعها علماء التربية للعقاب حتى يكون فعالا ، ومفيدا في تحصيل الغرض المرجو منه..
ورغم أن العقاب ضروري – في نظري – في العملية التعليمية بصفة عامة وخاصة في تحفيظ القرآن الكريم للأطفال إلا أن مبالغة بعض مشايخ المحاضر الشنقيطية في استخدامه يخرجه عن الهدف منه ، ويجعل بعض الطلاب ينفرون من القرآن الكريم نفورا جزئيا أو كليا ، حسب حالتهم النفسية ، ومستوى نضجهم العقلي …
إن الموازنة بين حالة الطفل السلوكية والاجتماعية ، ومستوى إدراكه لأهمية حفظ القرآن الكريم ، هي التي من خلالها يجب أن يحدد المدرس مقدار العقاب لكل طفل ، ولذا فإن التسوية بين جميع الطلاب في العقاب ، وعدم مراعاة الفروق والمميزات الشخصية بينهم سيعطي في النهاية مفعولا عكسيا ، وسيكوِّن عقدة نفسية في نفوس التلاميذ من القرآن الكريم ، فيصبح مربوطا في أذهان كثيرين منهم بالعقاب والضرب والإهانة ، وفي هذا من الخطر على العملية التعليمية ما هو ظاهر بَيِّن ..
إن تقرير ذلك – في نظري – لا يتنافى مع التأكيد على أهمية العقاب ، ولكن باعتدال وتوسط ، فيجب أن يكون الهدف المبدئي هو احترام التلاميذ للشيخ ، وتوقيرهم له ؛ بل وإعجابهم بسلوكه ، ومهنته ، فإن حصل ذلك دون ضرب أو عقاب فبها ونعمت ، وإن لم يحصل إلا بالعقاب والضرب ، فيجب أن يكون بغير إفراط ، ودون مبالغة تشم منها رائحة العداوة والتشفي ، بدل علاقة الرحمة والمحبة التي ينبغي أن تكون هي أساس العلاقة بين الشيخ وطلابه.والله تعالى أعلم.
ثانيا : عدم الاعتناء بالتجويد :
لقد ارتكب كثير من الشناقطة خطأ كبيرا حين غرسوا في أذهان أطفالهم أن مهمتهم الكبرى هي حفظ القرآن الكريم فقط ، ولو بدون مراعاة لقواعد التجويد ، فأصبح هم الطالب الوحيد هو تكرار درسه اليومي بسرعة فائقة حتى يصل تكراره لحد ترسخ فيه الدرس في الذاكرة رسوخا قويا ، ما كان ليحصل لو كررها بإعطاء الحروف حقها من مخرج وصفة وما إلى ذلك ..
إن هذا الخطأ انتشر في كثير من مناطق شنقيط ، فصار بعضهم يقرأ قراءة لا تليق بكتاب الله تعالى ، ولا يجوز أن يقرأ بها ، مع العلم أن أحكام التجويد مقررة عندهم في المحاضر ، ولكن الطالب لا يدرسها إلا بعد أن يرسخ القرآن الكريم في ذهنه ، ويحفظه حفظا قويا لم يراع فيه أحكام التجويد .
لقد كان من المفروض أن يلقن الطالب القرآن الكريم مجودا ، وأن يحفظه أول ما يحفظه بتطبيق أحكام التجويد ، حتى يرسخ حفظه بطريقة سليمة.
أما اعتذار كثير من الناس عن سرعة القراءة هذه بأن القراءة بالحدر ([1]) مذهب بعض أئمة القراءة ؛ فغير وارد ؛ لأن الحدر عند الأئمة هو الإسراع في القراءة مع المحافظة على أحكام التجويد من إظهار ، وإدغام ، وقصر ، ومد ، ووقف ، ووصل ، وغنة ، ونحو ذلك ، وهذا الحدر هو مذهب القائلين بقصر المنفصل ، وليس من قراءة هؤلاء في شيء ، والفرق بينهما كما بين الثرى والثريا..
قال ابن الجزري : ( وأما الحدر فهو مصدر من حدر بالفتح يحدر بالضم إذا أسرع ؛ فهو من الحدور الذي هو الهبوط …. إلى أن قال : فالحدر يكون لتكثير الحسنات في القراءة ، وحوز فضيلة التلاوة ، وليحترز فيه عن بتر حروف المد ، وذهاب صوت الغنة ، واختلاس أكثر الحركات ، وعن التفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة ، ولا توصف بها التلاوة ، ولا يخرج عن حد الترتيل ، ففي صحيح البخاري أن رجلا جاء إلى ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – فقال : قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال : هذا كهذ الشعر ([2])…) ([3])
فاتضح مما سبق أن الذين يهذون القرآن الكريم هذا دون مراعاة لأحكام التجويد ليسوا على مذهب أحد من الأئمة في القراءة ، ولم يقل بجواز قراءتهم أحد ، بل هي تلاعب بكتاب الله تعالى ؛ فيجب على المسلم أن يتوب إلى الله تعالى منها ، وأن يقرأ القرآن الكريم بترتيل وتدبر لمعانيه ؛ فيدعو عند الأمر بالدعاء ، ويستعيذ عند المرور بآية وعيد ، ويراعي مختلف أحكام التلاوة. والله تعالى أعلم.
([1]) للقراءة أربع مراتب هي : التحقيق ، والترتيل ، والحدر ، والتدوير .وأفضلها الترتيل ، والمراتب الأخرى جائزة لكن بمراعاة أحكامها ، من غير إفراط ولا تفريط. انظر : “النشر في القراءات العشر” ج 1 ص 207
([2]) رواه “البخاري” في صحيحه ، باب الجمع بين السورتين في ركعة ، حديث رقم 742 ج 1 ص 269 و”مسلم” في صحيحه باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ وهو الإفراط في السرعة ، حديث رقم 822 ج 1 ص 563