المبحث الخامس : طريقة الشناقطة في حفظ كتاب الله تعالى
المطلب الأول : التعريف بالشناقطة :
لا بد أن نلقي نظرة تعريفية على هذا المسمى – أعني الشناقطة – حتى يكون القارئ على بصيرة من الموضوع الذي نعالجه .
كلمة شنقيط تكتب بالقاف والجيم ، وقد اقتصر المؤرخون في العصور الأول على كتابتها بالجيم ، ووجد ذلك في الصكوك القديمة ، وكتبها بعضهم بالكاف وهو خطأ …
وقد اختلف في معناها ، والذي قرره العلامة الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي([1]) – رحمه الله تعالى – أنها تطلق على عيون الخيل ، وهي
الآن مدينة من مدن “آدرار”([2]) واقعة فوق جبل في غرب الصحراء الكبرى ،
ثم صارت تطلق على جميع القطر المعروف حاليا ب : “موريتانيا”([3]) وهو
من باب تسمية الشيء باسم بعضه . ([4])
وهذا القطر المعروف قديما باسم شنقيط ، وحاليا باسم موريتانيا يسكنه كثير من القبائل العربية ([5]) التي ينتهي نسب أغلبها إلى الحسنين ابني علي رضي الله عنهم – وجعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – ، وبعضها إلى
الأنصار ، وقبائل معدودة إلى حمير وهناك نسبة قليلة من الزنوج ، قدرت في بعض الإحصائيات بنسبة 4 % وربما زادت في الفترة الأخيرة بسبب عوامل متعددة.([6])
أما اللغة السائدة فهي اللغة العربية ، مع استعمال عريض لما يسمى باللهجة الحسانية ، وهي قريبة من اللغة العربية إلى حد كبير ؛ بل هي أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى ، كما أن هناك ثلاث لهجات زنجية مستعملة عند الزنوج فقط ([7])…
وبعد هذه النبذة الموجزة عن بلاد شنقيط ؛ يجدر بنا أن نعرج على المقصود ، وهو طريقة حفظ كتاب الله تعالى عند هذا الشعب الذي اشتهر بقوة الذاكرة ، ومتانة الحفظ ، وسرعته أيضا.. ([8])
([1]) هو الشيخ العلامة الأصولي الفقيه المحدث عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام محنض أحمد العلوي ، نسبة إلى قبيلة “إدوعل” التي يرجع نسبها إلى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ، ولد بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري ، ألف تآليف مفيدة ، ونظم أنظاما عديدة منها : كتابه “مراقي السعود” وشرحه “نشر البنود” وهو من أفضل ما يقرأ في علم الأصول ، وله كتاب “طلعة الأنوار” في مصطلح الحديث ، وشرحها هدى الأبرار ، وغير انظر ترجمته في : “مذكرة أصول الفقه” ص 57
([2]) “آدرار” قال صاحب الوسيط : ( سألت بعض أهل اللغة الشلحية ، فقال لي : معناه عندهم الجبل ، وهو عبارة عن جبال شاهقة ، يعاينها الصاعد ، مقدار أربع ساعات ، وهي كالدائرة محلقة في السماء ، حتى إذا انتهى إليها الصاعد ، وجد أرضا مستوية ، فوقها جبال شامخة ، ومدن ، وأودية نخل ، وكثبان رملية ، كأنه في أرض أخرى ، وهي التي تسمى “اظهر” يسير فيها الراكب مقدار ستة أيام طولا ، وأقل من ذلك عرضا ، وقد توجهت إليه من جهة أرض القبلة ، فرأيته مما يزيد على يوم ، وظننه سحائب سوداء ). انظر “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط” ص 428
([3]) هذه التسمية استحدثها المستعمرون ، والاسم الذي كان يطلق على هذه البلاد في كل مكان من العالم هو : شنقيط ، وما زال هذا الاسم هو المعروف إلى الآن في كثير من البلاد ، وخاصة في الجزيرة العربية فإنهم لا يعرفون – في الغالب – موريتانيا ، وإنما يعرفون شنقيط.
([4]) انظر : “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط” ص 422 وما بعدها .
([5]) أنبه هنا على نقطتين مهمتين ، الأولى : أن القبائل العربية التي تسكن في الصحراء الغربية ، والتي يقع غالبها الآن تحت السيطرة المغربية تنتمي للشناقطة بكل المقاييس ، فلغة الجميع هي اللغة العربية ، ولهجة الجميع هي الحسانية ، واللباس متحد ، والتاريخ مشترك ؛ بل إنك تجد القبيلة الواحدة منقسمة قسمين ، قسم في أرض شنقيط ، والآخر في الصحراء الغربية ..
والنقطة الثانية : أن كثيرا من الأعاجم من دولة مالي يدعي أنه من الشناقطة وليست حقيقية ؛ فهم لا يتكلمون اللهجة الحسانية ، والملابس تختلف ، والعادات مختلفة ، بل ولا قواسم مشتركة إلا في القليل النادر ، ولا نعني بذلك بعض القبائل العربية التي نزحت من أرض شنقيط إلى دولة مالي ، فهم شناقطة حقيقيون ولكنهم قلة قليلة ..
([6]) من هذه العوامل : قلة تعدد الزوجات بين العرب ، فقد غرس الاستعمار الفرنسي أفكاره الخبيثة في المجتمع ، ومن ضمنها تشويهه لتعدد الزوجات ، ونعته بأنه ظلم للمرأة ، في حين فتحت حكومة معاوية ولد سيد أحمد الطايع – والتي سقطت بحمد الله قبل سنة ونصف تقريبا – كل وسائل تعدد الزوجات للزنوج حتى تضمن لهم تفوقا عدديا في المستقبل على حساب العرب .
ومع أني لا أومن بمفهوم القوميات ، وصراعها ، والذي أدين الله به هو الإسلام الذي يستوي فيه الأسود والأبيض ، والعربي ، والزنجي ، إلا أني أنبه على أن الحرب على تلك القبائل العربية ليست حربا قومية وإنما المقصود منها هو حصر المد الإسلامي ، فكل مسلم موضوعي سواء كان زنجيا ، أو عربيا يعلم أن الإسلام ما كان لينتشر لولا فضل الله أولا ، ثم جهود تلك القبائل العربية العريقة ، فالحرب عليها إذن حرب على الإسلام ، فضلا عن أنه استحداث لصراع ، وعداء غير موجود أصلا ؛ فلقد تعايشت تلك القبائل العربية مع الزنوج على أساس الإسلام منذ قرون عديدة ، تعايشا سلميا ملؤه الثقة بين الجميع ، والتعاون في السراء والضراء ، شأنهم في ذلك شأن كل البلاد الإسلامية ، فما عرف المسلمون يوما التفرقة على أساس اللون ، أو الجنس ، وإنما كان ميزانهم ، ومعيارهم : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).
([7]) وتسمى هذه اللهجات : البولارية ، والسننكية ، والولفية ، وربما وجدت لهجة تسمى البربرية ، وهي نادرة جدا .
([8]) قد تجد من هذا الشعب من يحفظ القصيدة الطويلة من أول سماع لها ، وربما تجد منهم من يحفظ ما يعادل مجلدات كثيرة ، ويحكى عن أحدهم : أنه جاء إلى مكتبة ؛ ليشتري القاموس المحيط للفيروزآبادي ، فأعطاه صاحب المكتبة القاموس في مجلد واحد ؛ لينظر في الطبعة وجودتها ، وبعد تصفحه للكتاب أرجعه لصاحب المكتبة ؛ لأنه لم يعد بحاجة إليه ؛ فقد حفظه ، فليحذر أصحاب المكتبات من مثله .
وقد يكون في هذا مبالغة ، ولكن المقصود منه هو التعبير عن سرعة الحفظ ومتانته عند هذا الشعب.