المطلب الثاني : التغليظ في نسيان القرآن الكريم بعد حفظه :
عن أنس بن مالك ([1]) – رضي الله تعالى عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عرضت علي أجور أمتي ، حتى القذاة ، أو البعرة يخرجها الإنسان من المسجد ، وعرضت علي ذنوب أمتي ، فلم أر ذنبا أكبر من آية أو سورة أوتيها رجل ؛ فنسيها ).([2])
وعن سعد بن عبادة ([3])– رضي الله تعالى عنه – قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من رجل قرأ القرآن ، ثم نسيه ، إلا لقي
الله عز وجل يوم القيامة أجذم ) ([4])
قال العلامة أبو الحسين أحمد بن جعفر بن أبي داود المنادي ([5]) – رحمه الله تعالى – : ( فأما ظاهر حديث سعد ، فهو تغليظ ، لأنه أراد بالجذم انقطاع الحجة ، وكأنه قال : أي داخل في حفظ القرآن برغبة لزمه القيام بحفظ حروفه ، والعمل بما فيه ، فلما تشاغل عن ذلك ، ورد يوم القيامة بلا حجة ؛ إذ التارك لما يرغب فيه محيد ، يوصف بالرغبة عنه ). ([6])
ولم يزل السلف الصالح يخافون نسيان القرآن الكريم بعد حفظه ، ويعتبرون ذلك نقصا لا يعوض ، ومصيبة لا يصبر عليها ، ويكثرون الصلاة به ، وتلاوته خوفا من ذلك الوعيد ، وطمعا في ذلك الأجر الموعود به للماهرين بالقرآن العظيم..
فعن الضحاك بن مزاحم ([7]) – رحمه الله تعالى – قال : ( ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه ، إلا بذنب ، ثم قرأ : “وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ” ([8]) ثم قال : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟).([9])
وسئل سفيان بن عيينة ([10]) – رحمه الله تعالى – عن الذي ينسى القرآن بعد
أن قرأه وحفظه ، أنه يجاء به يوم القيامة وقد سقط لحم وجهه ؟ فقال: ( إنما ذلك لمن نسيه نسيان ترك له ؛ فأما الموصي به ، المشتهي لحفظه ، غير أنه يتفلت منه ؛ فليس ذلك بناس له ، وكيف وهو يتلوه حق تلاوته ، يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويعمل بما فيه ، إنما النسيان كقوله : ” إنا نسيناكم “([11]) “اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا”([12]) ). ([13])
والمقصود بكل ذلك من استطاع حفظه ، ثم انشغل عنه حتى نسيه ، ولم يرجع إليه ، ولم يهتم بإعادة حفظه .
أما الذين يحاولون حفظه ولم يستطيعوه ؛ فليسوا من المقصودين بهذا الوعيد المذكور في هذه الآثار ، فهم وإن لم يكونوا بمنزلة الحفاظ تلاوة ، وعملا ، فهم في درجاتهم ، بمحاولتهم حفظه ، وبذلهم الجهد في ذلك ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
المطلب الثالث : علاج الشناقطة للنسيان :
سأذكر هنا أهم أسباب النسيان عند علماء التربية ، وكيف عالجها الشناقطة في طريقة الحفظ عندهم :
1 – الترك ([14]): وذلك أن المادة المحفوظة إذا تركت ، ولم تراجع لفترة طويلة فإنها تنسى ، وخاصة إذا كانت مثل القرآن العظيم الذي تقدم تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له بالإبل المطلقة من عقلها ، ولكن سرعة النسيان نسبية ، تعتمد على مستوى الحفظ ، وقوة الذاكرة الحافظة …
ولذا فقد عالج الشناقطة هذه النقطة ، بإتقان الحفظ ، وتقويته حتى لا يتعرض للنسيان إلا بعد فترة ترك طويلة ، قلما يسمح المسلم لنفسه بهجر القرآن في مثلها ، واعتمدوا في ذلك على كثرة التكرار التي قدمنا ، والتفرغ التام للقرآن الكريم حتى يتم ترسيخه في الذاكرة قبل أي كتاب آخر ، بل إن بعضهم من قوة حفظه وكثرة تكراره ، قد يترك القرآن سنوات ؛ فإذا رجع إليه كان كمن حفظه لتوه.
2 – التداخل ([15]) : وهو من أسباب النسيان التي تكثر في هذا الزمن ، ذلك أن الطالب في المدرسة ، أو في حلقات التحفيظ ، يكلف بحفظ مواد متنوعة ، ومختلفة ؛ بل ومتباينة أحيانا ، فيحصل تداخل المعلومات في الذاكرة ؛ فتتفاعل ، وينسى أقواها حفظا أضعفها …
وقد عالج الشناقطة هذا الداء بالتفرغ التام لكتاب معين ، فإذا كان الطالب يكتب القرآن الكريم ؛ فإنه متفرغ له تمام التفرغ ، ولا يقرأ معه أي شيء آخر ، وهكذا في بقية المتون ، والكتب الأخرى ، لا يسمح للطالب – غالبا – بكتابة متنين ، ولا بالانتقال من متن حتى يتقن الذي قبله . ([16])
3 – عدم الراحة أو النوم : وهو من أسباب النسيان المهمة ؛ فقد أثبتت التجارب أن الراحة أو النوم بعد حفظ مادة ما تؤدي إلى تثبيت الحفظ ، وتقلل النسيان … ([17])
وقد عالج الشناقطة سبب النسيان هذا بجعل وقت الحفظ بعد نوم وقبل نوم ؛ فهم يحفظون عادة في الصباح بعد الاستيقاظ من نوم الليل ، ويستمر التكرار من أجل ترسيخ الحفظ حتى يرتفع النهار ، ثم ينامون قبل الظهر ([18])نوما خفيفا ، ثم يبدؤون في التكرار من جديد ، وبهذا يساعدون الذاكرة على الراحة بعد الحفظ ، لترسخ فيها المادة المحفوظة .
([1]) هو : أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار ، الإمام ، المفتي ، المقرئ ، المحدث ، راوية الإسلام ، أبو حمزة الأنصاري ، الخزرجي ، البخاري ، المدني ، خادم رسول الله صلى الله علي وسلم ، وتلميذه ، وتبعه ، ولد قبل الهجرة بعشر سنين ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم أتم الصحبة ، ولازمه أكمل الملازمة منذ هاجر إلى أن مات ، وغزا معه غير مرة ، وبايع تحت الشجرة ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم علما جما ، وعن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاذ ، وروى عنه خلق عظيم ، منهم : الحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، وأبو قلابة ، ومكحول ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم . مات – رضي الله عنه – سنة إحدى وتسعين. انظر ترجمته في : “سير أعلام النبلاء” ج3 ص395
([2]) رواه “أبو داود” في سننه ، باب في كنس المسجد ، حديث رقم 461 ج 1 ص 126 و”الترمذي” في سننه ، حديث رقم 2916 ج 5 ص 178 ، وقال الترمذي :
( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، قال : وذاكرت به محمد بن إسماعيل – يعني البخاري – فلم يعرفه واستغربه ، قال محمد : ولا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوله : حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول : لا نعرف للمطلب سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله : وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس ).
([3]) هو : سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج ، السيد ، الكبير ، الشريف ، أبو قيس ، الأنصاري ، الخزرجي ، الساعدي ، المدني ، النقيب ، سيد الحزرج ، قال البخاري في تاريخه : إنه شهد بدرا ، وتبعه ابن مندة ، له أحاديث يسيرة ، وهي عشرون بالمكرر ، وذلك لأنه مات قبل أوان الرواية ، أرسل عنه الحسن ، وعيسى بن فائد ، وممن روى عنه أولاده : قيس ، وسعيد ، وإسحاق ، ومن الصحابة : ابن عباس ، وأبي أمامة بن سهل ، وعن ابن عباس قال : لما نزلت “والذين يرمون المحصنات” (النور 14) قال سعد سيد الأنصار هكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم” قالوا : لا تلمه ؛ فإنه غيور ، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة قط فاجترأ أحد يتزوجها ، فقال سعد : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأعلم أنها حق وأنها من الله … الحديث . مات – رضي الله عنه وأرضاه – سنة أربع عشرة بحوران . انظر ترجمته في : “الإصابة في تمييز الصحابة” ج 3 ص 66 و “سير أعلام النبلاء” ج1 ص270
([4]) رواه “أبو داود” في سننه ، باب التشديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه ، حديث رقم 1474 ج 2 ص 75
([5]) هو : أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن أبي داود المنادي البغدادي الحافظ ، ولد سنة سبع وخمسين ومائتين تقريبا ، وسمع من جده ، ومن محمد بن عبد الملك الدقيقي ، ومحمد بن إسحاق الصاغاني ، وأبي داود السجستاني ، وحدث عنه : أبو عمر بن حيويه ، وأحمد بن نصر الشذائي المقرئ ، ومحمد بن فارس الغوري وجماعة ، قال الخطيب : كان صلب الدين شرس الأخلاق ، وقال الداني : مقرئ جليل غاية في الإتقان ، فصيح اللسان ، عالم بالآثار ، نهاية في علم العربية ، صاحب سنة ، ثقة مأمون.توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة .
انظر ترجمته في : “سير أعلام النبلاء” ج15 ص361 و “الوافي بالوفيات” ج6 ص179
([6]) انظر : “متشابه القرآن العظيم” ص 49
([7]) هو : الضحاك بن مزاحم الهلالي ، أبو محمد ، وقيل : أبو القاسم ، صاحب التفسير ، كان من أوعية العلم ، وليس بالمجود لحديثه ، وهو صدوق في نفسه ، حدث عن ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عمر ، وأنس بن مالك ، وغيرهم ، وحدث عنه عمارة بن أبي حفصة ، وأبو سعد البقال ، وجويبر بن سعيد ، وغيرهم ، وثقه أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وغيرهما ، توفي – رحمه الله تعالى – سنة اثنتين ومائة .
انظر ترجمته في : “سير أعلام النبلاء” ج4 ص599
([9]) انظر : “تفسير ابن كثير” ج4 ص118
([10]) هو : سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم أخي الضحاك بن مزاحم ، الإمام الكبير ، حافظ العصر ، شيخ الإسلام ، أبو محمد الهلالي ، الكوفي ، ثم المكي ، ولد بالكوفة سنة سبع ومائة وطلب الحديث ، وهو حدث ؛ بل غلام ، ولقي الكبار ، وحمل عنهم علما جما ، وأتقن ، وجود ، وجمع وصنف ، وعمر دهرا ، وازدحم الخلق عليه ، وانتهى إليه علو الإسناد ، ورحل إليه من البلاد ، وألحق الأحفاد بالأجداد ؛ فسمع من عمرو بن دينار وأكثر عنه ، ومن زياد بن علاقة ، والأسود بن قيس ، وعبيد الله بن أبي يزيد ، وابن شهاب الزهري ، وعاصم بن أبي النجود ، وخلائق ، حدث عنه : الأعمش ، وابن جريج ، وشعبة ، وهؤلاء من شيوخه ، وهمام بن يحيى ، والحسن بن حي ، وزهير بن معاوية ، وحماد بن زيد ، وخلائق.قال الشافعي : وجدت أحاديث الأحكام كلها عند ابن عيينة سوى ستة أحاديث ، ووجدتها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثا ، عاش إحدى وتسعين سنة.
انظر ترجمته في “سير أعلام النبلاء” ج8 ص454 و “صفة الصفوة” ج2 ص231
([11]) جزء من الآية 14 من سورة السجدة
([13]) انظر : “متشابه القرآن العظيم” ص 49
([14]) انظر : “طرق تدريس القرآن الكريم” ص 135
([15]) انظر : “علم النفس التربوي” ص 500 د. أحمد زكي صالح .
([16]) ترتيب حفظ المتون عند الشناقطة يختلف من منطقة إلى أخرى ، مع إجماعهم على تقديم حفظ كتاب الله تعالى أولا ..
ففي بعض المناطق يحفظون – بعد القرآن العظيم – المعلقات ، وألفية ابن مالك ، وذلك لتقويم لسان الطفل على اللغة الفصحى ؛ فهي أهم أداة لفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ ثم يحفظون بعد ذلك الفقه ، والسيرة ، وعلم المنطق ، وعلم الأصول ، وهكذا.
أما في بعض المناطق الأخرى ؛ فيبدؤون – بعد كتاب الله – بحفظ متون الفقه المالكي كالأخضري ، وابن عاشر ، ثم رسالة ابن أبي زيد القيرواني ، ومختصر خليل ، ثم أصول الفقه ، ثم اللغة …
([17]) انظر : “طرق تدريس القرآن الكريم” ص 137
([18]) ولا يصلى الظهر في غالب مناطق شنقيط إلا في حدود الساعة الثانية والنصف بعد الزوال ، ولعل السبب في ذلك عدم توفر تقويم معتمد من هيئة شرعية ، فكان اعتماد الناس على مراقبة الظل ، والاحتياط في زيادته حتى يتأكدوا من دخول الوقت بما لا يدع مجالا للشك . والله أعلم.