المطلب الخامس : أهم القواعد المتبعة في المحضرة :
ومن الجدير بالذكر أن كل مراحل الحفظ هذه تقطع مع مراعاة قواعد المحاضر في تلك البلاد ، ومن أهم تلك القواعد :
أ – في ليلة الأربعاء – عادة – يجلس الشيخ والطلاب من حوله ، فيجري لهم اختبارا أسبوعيا في الحفظ ؛ فينادي الواحد منهم ، ويأمره بأن يسمع الثمن الفلاني من حفظه ، فإن غلط فيه ضحك منه الطلاب ، وعابوه على ذلك الخطأ ، ثم ينادي آخر ، وهكذا …
ولهذه الخطوة دور مهم في إذكاء روح المنافسة بين الطلاب ، وتشجيع أصحاب الذكاء منهم ، مما يدفع بهم إلى المثابرة ، والسعي في تحصيل العلم.
وجدير بالذكر أن مساء الأربعاء هو آخر الفترة الدراسية في الأسبوع ؛ لأن الطلاب يستريحون يومي الخميس والجمعة .
ب – غالب طلاب المحضرة يفارقون أهلهم ، ويتفاوت بعدهم من ذويهم حسب بعد المحضرة وقربها ، وقد يتولى الشيخ معاشهم ، وقد يأتون به هم حسب حالة الشيخ المادية ، ومستوى أسر الطلاب المادي كذلك ، فبعضهم يأتي ببقرة حلوب والبعض يأتي ببقرتين ، أو مثل ذلك من الإبل ، أو الغنم.
ويتناوبون على رعي تلك الماشية ، كل بيومه ، فيأخذ لوحه في الصباح ، ويكتب درسه ، ثم يذهب بلوحه ، ويظل في محل الرعي يكرر ، حتى المساء.
أما أكلهم ؛ فهو قليل جدا ؛ فلا يأكلون حتى يستبد بهم الجوع ، وإن أكلوا فإنهم لا يشبعون ؛ لأنه لا يوضع لهم من الطعام – أصلا – ما يشبعهم ؛ بل يطبخون أو يطبخ لهم بأمر من الشيخ ، وبتقدير منه ، ولهذا دور هام في نجاح عملية الحفظ ، وقد قدمنا أضرار البطنة ، والأكل الزائد.
وقال ابن حجر : ( … واختلف في حد الجوع على رأيين – ذكرهما في الإحياء – أحدهما : أن يشتهي الخبز وحده ؛ فمتى طلب الأدم فليس بجائع ، ثانيهما : أنه إذا وقع ريقه على الأرض لم يقع عليه الذباب ، وذكر أن مراتب الشبع تنحصر في سبعة ، الأول : ما تقوم به الحياة ، الثاني : أن يزيد حتى يصوم ويصلي عن قيام ، وهذان واجبان ، الثالث : أن يزيد حتى يقوي على أداء النوافل ، الرابع : أن يزيد حتى يقدر على التكسب ، وهذان مستحبان ، الخامس : أن يملأ الثلث ، وهذا جائز ، السادس : أن يزيد على ذلك وبه يثقل البدن ويكثر النوم ، وهذا مكروه ، السابع : أن يزيد حتى يتضرر ، وهي البطنة المنهي عنها ، وهذا حرام ، ويمكن دخول الثالث في الرابع ، والأول في الثاني ). ([1])
أما ما يسكن فيه طلاب المحاضر فهو أمكنة يصدق عليها حقيقة قول بعضهم :
تلاميذ شتى ألف الدهر بينهم لهم همم قصوى أجل من الدهر
يبيتون لا كن لديهم سوى الهوى ولا من سرير غير أرمدة ([2]) غبر([3])
ومن الأعمال الشاقة التي يقوم بها طلاب المحاضر في بلاد شنقيط – غير ما ذكرنا – أنهم يجمعون الحطب نهارا ، لأجل أن يوقدوه ليلا ، فيقرؤوا عليه دروسهم ؛ فلا إنارة في البادية غير ما يحصل من إيقاد الحطب ، وهذا من جدهم واجتهادهم في حفظ القرآن الكريم .
ولا شك أن طلاب المحضرة هؤلاء قد ضحوا بكل وسائل الراحة المتوفرة عند أهلهم ، وذويهم من أجل حفظ كتاب الله تعالى ؛ ليجعلوه رأس مالهم ، ومنطلقهم إلى حفظ بقية العلوم الأخرى ، وقد عرفوا أن هذه طريق المعالي ، وأنها شاقة ومكلفة ؛ فشمروا عن ساعد الجد ، وتأهبوا لمعركة طلب العلم ، ولسان حال كل واحد منهم يقول لنفسه :
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
ويقول لنفسه :
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ([4])
ج – طالب المحضرة لا يجالس – في غالب وقته – إلا الطلاب ، ولا يسمح له في وقت فراغه بالتجوال ، والأحاديث مع العوام ، بل يوظف وقت الفراغ – عادة – في الأحاديث المفيدة ، والنكت التي لا تخدش الحياء ، ولا تذهب هيبة العلم وطلابه ، وكأنهم في ذلك يعملون بوصية لقمان لابنه …
قال شهر بن حوشب : بلغني أن لقمان الحكيم قال لابنه : يا بني لا تتعلم العلم لتباهي به العلماء ، أو لتماري به السفهاء ، أو لترائي به في المجالس ، ولا تترك العلم زهدا فيه ، ورغبة في الجهالة ، يا بني : اختر المجالس على عينك ، وإذا رأيت قوما يذكرون الله فاجلس معهم ؛ فإنك إن تكن عالما ينفعهم علمك ، أو تكن جاهلا علموك ، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمته فيصيبك بها معهم ، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم ؛ فإنك إن تكن عالما لم ينفعك علمك ، وإن تكن جاهلا زادوك غيا ، ولعل الله أن يطلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم.([5])
ويحذر الشناقطة طالب العلم من مجالسة أراذل الناس ، وجهالهم ؛ بل ويعيرون بها أحيانا ، شأنهم في ذلك شأن السلف الصالح جميعا ؛ فقد حذروا من مجالسة من لا يزيدك علمه ، ولا تنتفع بمصاحبته ، كما قال الشاعر :
فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإيـــاه
فكم من جاهل أردى حليما حين واخاه
يقاس المرء بالمــرء إذا ما هو ماشـاه
د – إذا أكمل الطالب الحفظ الأولي ؛ فإنه يصنع وجبة للطلاب جميعا ، وكذا إذا أخذ الإجازة ، فإنه مع صناعة الوجبة توضع الحناء على يده اليمنى ؛ تمييزا له عن غيره من الطلاب ، وإكراما له ، كما يقوم بوضع ختمات ملونة على اللوح الخشبي .
هذه أهم المراحل في حفظ القرآن الكريم عند الشناقطة ، وأهم قواعد المحاضر عندهم ، أوردتها موجزة قدر الإمكان ؛ لأن المقام لا يسمح بكثير
من التفاصيل التي لا يقع تحتها كبير فائدة … ([6])
([1]) انظر : “فتح الباري” ج 9 ص 528 وهذا التقسيم غير مسلم مع ما فيه من نفس صوفي ، ولكن هدفي من إيراده هو ذم البطنة لا غير ، فالأولى ما تضمنته الآية الكريمة من الوسطية والعدل في ذلك كله ، قال تعالى : ( … وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ..).
([2]) الرماد : دقاق الفحم من حراقة النار ، والطائفة منه رمادة ، والجمع أرمدة ، وأرمداء وأما رماد أرمد ، ورمديد ؛ فهو الكثير الدقيق جدا. انظر : “لسان العرب” ج3 ص185
([3]) راجع : “الوسيط في تراجم أدباء شنقبط” ص 521
([4]) الصبر – بكسر الباء – : عصارة شجر مر ، ورقها كقرب السكاكين طوال غلاظ ، في خضرتها غبرة وكمدة مقشعرة المنظر ، يخرج من وسطها ساق عليه نور أصفر ، ويصنع منها دواء مر ، ولا يسكن الصبر إلا في ضرورة الشعر . انظر : “لسان العرب” ج4 ص442 و”مختار الصحاح” ج 1 ص 149
([5]) انظر : “أطفال المسلمين كيف رباهم النبي الأمين” ص 174
([6]) وقد اعتمدت في سرد طريقة الشناقطة في حفظ كتاب الله تعالى على تجربتي الشخصية ، ثم على المعلومات القيمة التي أفادني بها أخي وشيخي : محمد بن محمد عبد الله بن أحمد محمود بن محمد حبيب الله السيدوي الحسني ، من أشراف يسمون “أهل اباه” يرجع نسبهم إلى الحسن بن علي – رضي الله تعالى عنهما – حفظ القرآن وهو صغير ، وحصل على إجازة بقراءة نافع من روايتي ورش وقالون ، وإجازة برواية حفص عن عاصم ، وله إجازات في الصحيحين ، وسنن أبي داود ، ونيل الأوطار ، وفتح القدير إلى مؤلفيها ، وله إجازات غير ما ذكرت ، وهو من العلماء المتواضعين ، الذين بذلوا جهدهم في نشر السنة ، ومحاربة البدعة ، بأسلوب هادئ رزين ، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا ، وقد استفدت من مكتبته التي تحوي كثيرا من كتب السنة في فترة كان انتشارها في موريتانيا قليلا ، وقد اشترى أغلبها بالأثمان الغالية مع قلة ماله ، كما استفدت من نصائحه ، ونهجه في الحياة ، فجزاه الله عني خير الجزاء ..
وهو الآن يسكن في العاصمة الموريتانية “انواكشوط” أسأل الله العلي القدير أن يطيل عمره ، وينفع به الإسلام والمسلمين.
كما اعتمدت – أيضا – على المعلومات القيمة التي أفادني بها الشيخ محمد يحيى بن أحمد بن سعيد ، وهو من حفاظ كتاب الله تعالى ، ولد سنة 1952 م وحفظ القرآن صغيرا ، وتنقل بين عدة مشايخ تعلم منهم كثيرا من العلوم المتداولة عند الشناقطة كالعربية ، وبعض كتب الفقه المالكي ، وغير ذلك ، وهو من المحبين للسنة ، المحاربين للبدعة ، نحسبه كذلك والله حسيبه ، ولا نزكي على الله أحدا ..
أما نسبه فهو من فخذ “إدبعمر” يعني أبناء اعمر من قبيلة “أولاد أبياري” إحدى قبائل الشناقطة التي ينتشر فيها حفظ كتاب الله تعالى ؛ فلا تكاد تجد فردا منها إلا وهو حافظ للقرآن ، وقد أنجبت هذه القبيلة كثيرا من العلماء ، وأكرمني الله بخؤولة منها ؛ فجد أبي لأمه هو العلامة : محمود ولد ابن عمر – رحمه الله تعالى وغفر له – أحد العلماء الأفذاذ من هذه القبيلة العريقة ، بل من نفس الفخذ المذكور ، وينتهي نسب هذه القبيلة إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وقد أفادني الشيخ محمد يحيى بتلك المعلومات في مقابلة أجريتها معه في منزله بمكة المكرمة في 16 – 3 – 1427 هـ فجزاه الله خيرا.