المطلب الرابع : أمور تضعف الذاكرة ، وتعيق عملية الحفظ :
1 – المعاصي : فهي تضعف الذاكرة ، وتميت القلب ، ولا يجتمع الإكثار من المعاصي مع حفظ العلم الشرعي ، وخاصة كتاب الله تعالى ، وقد قال جل من قائل : ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) ([1]) فإن حاولت حفظ العلم ، وبذلت جهدا ، ولم تلاحظ تحسنا ؛ فاعلم أنك متلبس بذنب حجبك عن الحفظ والفهم ؛ فتب إلى الله تعالى منه ، وعاود المحاولة.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
شكوت إلى وكيع ([2]) سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخـبرني بــأن العلم نــور ونـور الله لا يعطى لعاص.
2 – الانشغال بأمور الدنيا : ، وعدم التفرغ لحفظ كتاب الله : فعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال : أصبت أنا وعلقمة صحيفة ، فانطلقنا بها إلى عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه وأرضاه – فذكر قصة قال فيها : إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره . ([3])
وناهيك به خبيرا بهذا الشأن ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد ؛ فبدأ به ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة ). ([4])
وهو الذي قال عن نفسه – رضي الله تعالى عنه وأرضاه – : ( والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت ، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه ).([5])
وعن شقيق ([6]) عن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال : قال الله تعالى : “ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة”([7]) ثم قال على قراءة من تأمروني أن أقرأ ؟ فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة ، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله ، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه ، قال شقيق فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ، ولا يعيبه. ([8])
قلت : ولو كان ما قال غير صحيح لردوه عليه ، وليس في ذلك سوء أدب ؛ لأن المقام مقام إحقاق حق متعلق بكتاب الله ، وبتعليمه للناس ، ولكنه ما كان ليكذب رضي الله عنه وأرضاه أصلا ؛ فكيف بشيء متعلق بحبل الله المتين ، وصراطه المستقيم ، فرضي الله عنه ، وعن جميع الصحابة ، وجزاهم عنا خير الجزاء …
3 – عدم المراجعة الدائمة : فالقرآن أشد تفلتا من الإبل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعاهدوا القرآن ؛ فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا([9])من الإبل من عقلها ) ([10])
وهو تعبير ، وتشبيه من أبلغ ما يكون ، فالقرآن لا بد له من التكرار ، والمراجعة الدائمة أكثر من أي مادة محفوظة أخرى …
ويمكن أن تأخذ المراجعة أي شكل يناسب الحافظ ، كأن يفرض على نفسه مراجعة جزء كل يوم ، أو أكثر ، حسب ظروفه ومشاغله ، ولكن أفضل طريقة لمراجعة القرآن الكريم بعد حفظه المتقن ؛ تكون بالصلاة به في الليل ، قال تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ).([11])
قال الإمام الشوكاني – رحمه الله – : ( “ومن الليل فتهجد به نافلة لك” من للتبعيض ، وانتصابه على الظرفية بمضمر ، أي قم بعض الليل ؛ فتهجد به ، والضمير المجرور راجع إلى القرآن ). ([12])
4 – الحفظ الزائد : فعلى طالب العلم أن لا يحفظ إلا ما يستطيع ، وبمشورة الشيخ ، فبخبرته يستطيع أن يحدد له مقدار الحفظ الخاص به …
5 – البطنة : فإن كثرة الأكل ، والمبالغة في ملء البطن مذمومة شرعا ، وأضرارها ليست على عملية الحفظ وحدها ؛ بل على صحة الجسم بالكامل ، ولذا فقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
( ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ؛ بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ؛ فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه ). ([13])
قال القرطبي – رحمه الله تعالى – : ( .. ثم قيل في قلة الأكل منافع كثيرة ، منها : أن يكون الرجل أصح جسما ، وأجود حفظا ، وأزكى فهما ، وأقل نوما ، وأخف نفسا ، وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة ، وتتولد منه الأمراض المختلفة ؛ فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل ، وقال بعض الحكماء : أكبر الدواء تقدير الغذاء ). ([14])
وقد كان السلف الصالح يحذرون من البطنة فمن الأمثال المتداولة عندهم : البطنة تذهب الفطنة .
وقال ابن جماعة – رحمه الله تعالى – : ( كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب ، وكثرته جالبة للنوم ، والبلادة ، وقصور الذهن ، وفتور الحواس ، وكسل الجسم ، هذا مع ما فيه من الكراهة الشرعية .. ). ([15])
وليس ذم كثرة الأكل قاصرا على الشرع ؛ فإن العرب كانوا يذمون بكثرته ، ويمدحون بقلته كما قال قائلهم :
تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر
وقال حاتم الطائي :
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا.
6 – كثرة النظر في التلفزيون ، والكومبيوتر ، وخاصة إطالة العكوف على الإنترنت ، فذلك يضعف الذاكرة ، ويتعب أعصاب الدماغ ، ويصعب عملية الحفظ كثيرا …
([2]) هو : وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي بن فرس بن جمجمة بن سفيان بن الحارث بن عمرو بن عبيد بن رؤاس ، الإمام ، الحافظ ، محدث العراق ، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي ، أحد الأعلام ، ولد سنة تسع وعشرين ومائة ، وسمع من هشام بن عروة ، وسليمان الأعمش ، والأوزاعي ، وجعفر بن برقان وخلق. حدث عنه : سفيان الثوري أحد شيوخه ، وعبد الله بن المبارك ، والفضل بن موسى السيناني وهما أكبر منه ، ويحيى بن آدم ، وعبد الرحمن بن مهدي ، والحميدي ، ومسدد ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين وغيرهم .
قال يحيى بن معين : وكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه ، وقال أحمد بن حنبل : ما رأيت أحدا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع ، وقال عبد الرزاق : رأيت الثوري ، وابن عيينه ، ومعمرا ، ومالكا ، ورأيت ، ورأيت ؛ فما رأت عيناي قط مثل وكيع .
قال أحمد بن حنبل : حج وكيع سنة ست وتسعين ومائة ، ومات بفيد رحمه الله تعالى وغفر له ، قال الذهبي : عاش ثمانا وستين سنة سوى شهر أو شهرين.
انظر ترجمته في : ” سير أعلام النبلاء” ج9 ص140 و “طبقات الحنفية” ج1 ص540
([3]) انظر القصة كاملة في “جامع بيان فضل العلم” لابن عبد البر ج 1 ص 66 وراجع : “متشابه القرآن العظيم” ص 50
([4]) رواه “مسلم” في صحيحه ، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما ، حديث رقم 2464 ج 4 ص 1913
([5]) رواه “البخاري” في صحيحه ، باب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث رقم 4716 ج 4 ص 1912
([6]) هو : شقيق بن سلمة ، الإمام الكبير ، شيخ الكوفة ، أبو وائل الأسدي أسد خزيمة ، الكوفي ، مخضرم أردك النبي صلى الله عليه وسلم وما رآه ، حدث عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعمار ، ومعاذ ، وابن مسعود ، وغيرهم ، وحدث عنه : عمرو بن مرة ، وحبيب بن أبي ثابت ، والحكم بن عتيبة ، مات سنة اثنتين وثمانين .انظر ترجمته في : “سير أعلام النبلاء” ج4 ص161
([8]) رواه “مسلم” في صحيحه ، باب من فضائل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، حديث رقم 2462 ج 4 ص 1912
([9]) أَي أَشدّ تَفَلُّتَاً وخروجاً . انظر : “لسان العرب” ج 15 ص 156
([10]) رواه “البخاري” في صحيحه ، باب استذكار القرآن وتعاهده ، حديث رقم 4746 ج 4 ص 1921
([12]) انظر : “فتح القدير” ج3 ص251
([13]) رواه “الترمذي” في سننه ، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل ، حديث رقم 2380 ج 4 ص 590 و”ابن ماجه” في سننه ، باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع ، حديث رقم 3349 ج 2 ص 1111
([14]) انظر : “تفسير القرطبي” ج 7 ص 192
([15]) انظر : “كيف تحفظ القرآن الكريم” د/ يحيى بن عبد الرزاق الغوثاني ص 148